فی إثبات الطبیعة لكل متحرك و أنها هی المبدء القریب لكل حركة، سواء.

كانت الحركة طبیعیة او قسریة او إرادیة.

أما إذا كانت الاولی فظاهر أنّ فاعلها الطبیعة، و أما إذا كانت قسریة فلأنّ القاسر العلّة المعدة و المعد علّة بالعرض و لذلك یزول القسر و الحركة غیرمنقطعة بعد. و أیضاً لابدّ من انتهاء القواسر إلی الطبیعة أو الإرادة، و أما إذا كانت إرادیة فإنّ النفس إنما تحرّك الجسم باستخدام الطبیعة، و كثیر من اولی البحث و إن زعموا أنّ النفس هی الفاعلة القریبة للحركات المنسوبة إلی الإرادة لكنّ التحقیق أنّ المبدء القریب لها بعد تحقق التخیل و الإرادة و الشوق هو القوة المحركة للعضلة و الاوتار و الرباطات [1]، و تلك القوة هی بعینها طبیعة تلك الأعضاء و الآلات جعلت مطیعة إیاها لأنها منبعثة عن النفس علی الأعضاء لتدبیر البدن بواسطتها، و نحن نتیقن بالوجدان فضلا عن البرهان أنّ الأمر الممیل للجسم و الصارف له من مكان إلی مكان أو من حالة إلی حالة لا یكون الاّ قوة فعلیة قائمة به و هی المسمّاة بالطبیعة.

فالمبدء القریب للحركة الجسمیة قوة جوهریة قائمة بالجسم إذ الأعراض كلّها تابعة للصورة المقومة و هی الطبیعة، و لهذا عرّفها الحكماء بانها مبدء أول لحركة ما هی فیه و سكونه بالذات لا بالعرض، و قدبرهنوا أیضاً علی أنّ كل ما یقبل المیل من خارج فلابدّ و أن یكون فیه میل طباعی [2]. فثبت أنّ مزاول الحركة [3]مطلقاً لایكون إلاّ طبیعة، و قد علمت أنّ مباشر الحركة أمر سیال متجدد الهویة، و لو لم یكن سیالاً متجدداً لم یمكن صدور هذه الحركات الطبیعیة عنه لاستحالة صدور المتجدد عن الثابت.

و الحكماء كالشیخ الرئیس و غیره معترفون بأنّ الطبیعة ما لم یتغیر لا یمكن أن تكون علة الحركة إلاّأنهم قالوا لابدّ من لحوق التغیر لها من خارج [4]كتجدد مراتب.

قرب و بعد من الغایة المطلوبة فی الحركات الطبیعیة و كتجدد أحوال اخری فی الحركات القسریة و كتجدد الإرادات و الأشواق الجزئیة المنبعثة عن النفس علی حسب تجدد الدواعی الباعثة لها علی الحركة [5].

أقول: ما ذكروه غیرمجد فی صحة ذلك [6]فإنّ تجدد هذه الأحوال و تغیرها فی آخر الأمر ینتهی لامحالة إلی الطبیعة لما قدعرفت من انتهاء القسر إلی الطبیعة، و علمت أنّ النفس لاتكون مبدء الحركة إلاّباستخدام الطبیعة فالتجددات بأسرها منتهیة إلی الطبیعة معلولة لها. فتجددُ ما هی مبدء له یستدعی تجددها ألبتة.

فإن قیل: إنهم صحّحوا استناد التغیر كالحركة إلی الثابت كالطبیعة علی زعمهم بأن أثبتوا فی كل حركة سلسلتین: إحداهما سلسلة أصل الحركة و الاخری سلسلة منتظمة من أحوال متواردة علی الطبیعة كمراتب قرب و بعد من الغایة. قالوا فالثابت كالطبیعة مع كل شطر من إحدی السلسلتین علة لشطر من الاخری و بالعكس لا علی سبیل الدور المستحیل كما ذكروا فی ربط الحادث بالقدیم.

أقول: هذا الوجه غیركاف فی استناد المتغیر إلی الثابت و ارتباط الحادث بالقدیم فإنّ الكلام [7]فی العلة الموجبة للحركة لا فی العلة المعدة لها، و لابدّ فی كل معلول من علة مقتضیة. ففرض السلسلتین نعم العون علی وجود أمور مخصّصة [8]لأجزاء الحركة العارضة للمادّة المستعدة لها و كلامنا فی العلّة الموجبة لأصل الحركة، فإنّ الحركة معلولة و كل معلول لابدّ له من موجب لاینفك و لایتأخّر عنه زماناً، و لو كان كلّ من السلسلتین علة للاخری یلزم تقدم الشی ء علی نفسه و لامخلص عن هذا إلاّبأن یذعَن بأنّ الطبیعة جوهر سیال إنّما نشأت حقیقتها المتجددة بین مادة شأنها القوّة و الزوال، و فاعل محض شأنه الافاضة و الافضال، فلا یزال ینبعث عن الفاعل أمر و ینعدم من القابل، ثم یجبره الفاعل بایراد البدل علی الإتصال.

و أیضاً من راجع إلی وجدانه فی حال السلسلتین معاً بجمیع أجزائهما و لامحالة أنّهما جمیعاً متأخّرتان فی وجودهما عن وجود الطبیعة علم أنّ الكلام فی لحوقهما معاً بأمر ثابت عائد من رأس من أنّهما من أین حصلتا بعد ما فرض الأصل ثابتاً و الأعراض تابعة، و هذا علی قیاس ما ذكر فی البرهان المسمّی بالوسط و الطرفین علی بطلان اللاتناهی فی تسلسل العلل، من أنه إذا كان جمیع الآحاد ماسوی الطرف الأخیر أوساطا من غیر أن یكون لها طرف أول فمن أین حصلت تلك السلسلة؟ فهكذا نقول هیهنا إذا لم یكن هیهنا وجود أمر شأنه التجدد و الانقضاء لذاته فمن أین حصلت المتجددات سواءٌ كانت سلسلة واحدة أو سلاسل، و ممَّ حصل تجدد السلسلتین؟ .

علی أنّ مراتب القرب و البعد الّتی فرضوها سلسلة اخری هی لیست غیر نفس الحركة فإنّ تجدّد القرب و البعد لیس أمراً غیر الحركة جعلا و وجوداً.

فقد وضح أنّ تجدد المتجددات مستند إلی أمر یكون حقیقته و ذاته متبدّلة سیالة فی ذاتها و حقیقتها و هی الطبیعة لاغیر [9]لأنّ الجواهر العقلیة هی فوق التغیر و الحدوث، و كذا النفس من حیث ذاتها العقلیة، و أما من حیث تعلّقها بالجسم فهی عین الطبیعة كما سیجی ء. و أما الأعراض فهی تابعة فی الوجود لوجود الجواهر الصوریة، و أما نفس الحركة [10]فقد علمت أنّه لا هویة لها إلاّتجدد أمر و تغیره لا المتجدد، فهی نفس نسبة التجدد لا الّذی بها التجدد [11].

---