فی تحقیق القول فی نحو وجود الحركة.

قال الشیخ فی الشفاء: الحركة اسم لمعنیین، الأول الأمر المتصل المعقول للمتحرك من المبدء إلی المنتهی و ذلك مما لاحصول له فی الأعیان لأنّ المتحرك [1]مادام لم یصل إلی المنتهی فالحركة لم توجد بتمامها، و إذا وجدت فقد انقطع و بطل فإذن لا وجود له فی الأعیان أصلا بل فی الذهن، و ذلك لأنّ المتحرك یستند إلی المكان الّذی تركه و إلی المكان الّذی أدركه، فإذا ارتسمت صورة كونه فی المكان الأول فی الخیال ثم قبل زوالها عن الخیال ارتسمت صورة كونه فی المكان الثانی فقد اجتمعت الصّورتان فی الخیال [2]، فحینئذ یشعر الذهن بأنّ الصورتین معاً علی أنهما شی ء واحد، و أما فی الخارج فلا یكون لها فی الوجود حصول قائم [3]كما فی الذهن إذ الطرفان لا.

یحصل فیهما المتحرك فی الوجود و لا الحالة الّتی بینهما لها وجود قائم.

الثانی و هو الأمر الوجودی فی الخارج و هو كون الجسم متوسطاً بین المبدء و المنتهی بحیث كل حد فرض فی الوسط لایكون قبله و لا بعده فیه [4]، و هو حالة موجودة مستمرة مادام كون الشی ء متحركاً، و لیس فی هذه الحالة تغیر أصلا بل قد یتغیر بحدود المسافة بالعرض [5]، لكن لیس المتحرك متحركاً لأنه فی حد معین من الوسط، و إلاّلم یكن متحركاً عند خروجه منه بل لأنه متوسط علی الصفة المذكورة، و تلك الحالة ثابتة فی جمیع حدود ذلك الوسط، و هذه الصفة توجد فی المتحرك و هو فی آن [6]لأنه یصح أن یقال له فی كل آن یفرض فی حد متوسط لایكون قبله و لا بعده فیه.

و الّذی یقال من أنّ كل حركة ففی زمان، فإما أن یعنی بالحركة الأمر المتصل فهو فی الزمان و وجودها فیه علی سبیل وجود الامور فی الماضی و إن كان یباینها بوجه، فإنّ الامور الموجودة فی الماضی قد كان لها وجود فی آن من الماضی كان حاضراً فیه و لا كذلك هذا، و إن عنی به المعنی الثانی فكونه فی الزمان لا علی معنی أنه یلزم مطابقة الزمان بل علی معنی انه لایخلو من حصول قطع، و ذلك القطع مطابق للزمان فلا یخلو من حدوث زمان، و لانه ثابت فی كل آن من ذلك الزمان فیكون ثابتاً فی هذا الزمان بواسطته. هذا كلامه.

و فیه موضع ابحاث نقضاً و أحكاماً:

الأول [7]إنا نقول: لكل ماهیة نحو خاص من الوجود، و كونها فی الأعیان عبارة عن صدقها علی أمر و تحقق حدها فیه كما ذكره الشیخ فی باب المضاف، و إنه موجود فی الخارج بمعنی أنه یصدق حده علی أشیاء كثیرة فیه، و لا یعنی بموجودیة الشی ء إلاّ ذلك، و من هذا القبیل ماهیة [8]الحركة و الزمان و القوی و الاستعدادات و.

غیرها [9]. و العجب [10]أنّ الشیخ ذاهب إلی وجود الزمان المتصل فی الخارج لأنه الّذی ینقسم إلی السنین و الشهور و الأیام و الساعات، و الحركة بالمعنی الأول یطابقه و الحركة عنده محل الزمان [11]و علته، فالمعدوم كیف یكون محلا للموجود و علة له.

الثانی إنا نقول: لعلّ غرض الشیخ من نفی وجود الحركة بالمعنی الأول أنّ الحركة وصف للجسم، و الجسم جوهر ثابت موجود فی كل آن من زمان وجوده [12]، و الحركة لا وجود لها فی الآن، و لو كان ذلك المعنی نعتاً للجسم یلزم وجود الحركة فی كل آن یوجد فیه الجسم المنعوت به لاستحالة انفكاك الموصوف عن الصفة الّتی وصف بها عنه حین وصف بها. فالموجود من الحركة هو المعنی الآخر لاستمراره كاستمرار الجسم لا المعنی الأول، لتبدله و تجدده مع ثبات الجسم، لكنا نقول [13]: إنّ محل الحركة و قابلها لیس الجسم بما هو أمر ثابت بل الجسم بواسطة اشتماله علی المادة المنفعلة المتأثرة آناً فآناً كما أنّ فاعلها أیضاً سواءٌ كانت طبیعة أو قسراً أو إرادة لابدّ و أن یلحقه ضرب من تبدّل الأحوال و الحیثیات لیصیر بانضمام تلك الأحوال موجباً لحصول الحركة فی القابل كما بینه الشیخ فی موضعه، لأنّ علّة المتغیر متغیر [14]و علة الثابت ثابت لامحالة، و كذلك حكم القابل للشی ء.

الثالث إنّ نفی وجود الحركة بمعنی القطع مطلقاً غیرصحیح [15]فكیف حكم بنفیها. و الأولی أن یحمل كلامه علی أن ما رامه هو نفی أن یكون لوجودها صورة فی الأعیان كوجود الامور الثابتة المستمرة الذات الغیر المتجددة، و یرشدك إلی ذلك قوله:

«لایجوز أن یحصل بالفعل قائماً» حیث قیّد الحصول بالقیام أعنی قرار الذات و ثباتها، و كذا قوله: «و لایكون لها فی الوجود حصول قائم [16]كما فی الذهن إذ الطرفان» إلی آخره؛ فإنّ ما فی الذهن منها و إن كان بحسب الحدوث تدریجی الحصول لكنه دفعی البقاء بخلاف ما فی الأعیان منها فإنه تدریجیّ الحدوث و البقاء جمیعاً.

الرابع إنّ نفی وجود الحركة بالمعنی الأول كما ینص علیه عبارة الشیخ هاهنا مناقض لما قاله فی الشفاء [17]فی فصل حلّ الشكوك المقولة فی الزمان بهذه العبارة: و أما الزمان فإنّ جمیع ما قیل فی أمر اعدامه [18]و أنه لا وجود له فهو مبنی علی أنه لا وجود له فی الآن، و فرق بین أن یقال لا وجود له مطلقاً و بین أن یقال لا وجود له فی آن حاصلا، و نحن نسلّم و نصحح أنّ الوجود المحصَّل علی هذا النحو لا یكون للزمان إلاّ فی النفس و التوهم، و أما الوجود المطلق المقابل للعدم المطلق فذلك صحیح له، فإنه إن لم یكن صحیحاً له صدق سلبه فصدق أن نقول: إنه لیس بین طرفی المسافة مقدار إمكان لحركة علی حدّ من السرعة یقطعها [19]و إن كان هذا السلب كاذباً فالإثبات الّذی یقابله صادق، و هو انّ هناك مقدار هذا الإمكان، و الإثبات دلالة علی وجود الأمر مطلقاً و إن لم یكن فی آن أو علی جهة مّا، و لیس هذا الوجه له بسبب التوهم فإنه و إن لم یتوهم كان هذا النحو من الوجود حاصلاً و مع هذا فإنه یجب أن یعلم أنّ الموجودات منها ما هی محققة الوجود و محصّلته [20]، و منها ما هی أضعف فی الوجود، و الزمان یشبه أن یكون أضعف وجوداً من الحركة. انتهی كلامه. و الشیخ قدس سره أجلّ شأناً و أرفع محلا من أن یناقض نفسه فی كتاب واحد إذ ظهر من كلامه أنّ الحركة أقوی فی الوجود ممّا یوصف فی الأعیان بنحو من الوجود مطلقاً أعنی الزمان.

فیكون لها وجود فی الأعیان بالضرورة، كیف و هو علة الزمان و محله، فیكون أولی بالوجود كما نص علیه. فعلم أنّ معنی ما رامه من نفی وجود الحركة هو الّذی أومأنا إلیه [21].

الخامس إنّ الحركة بمعنی التوسط المذكور لا وجود له فی الأعیان لأنه كلیّ و الكلیات بما هی كلیات أی معروضة للعموم و الاشتراك غیر موجودة فی الخارج فالموجود من الحركة المعینة هی الحصول فی حد معین و ذلك أمر آنیّ [22]، و لهذا ذهب جمع إلی أنّ الحركة حصولات متعاقبة فی حدود من المسافات متتالیة فیلزم تتالی الآنات و تشافع الحدود، و هو باطل، كیف و لو كان كذلك لم یكن كل واحد من تلك الحصولات كمالا أولیاً بل هو الكمال الثانی [23]، لأنّ الحركة هو السلوك إلی الحصول فی حد معین و الطلب له، لا أنه نفس ذلك الحصول، إذ طلب الشی ء لیس ذلك الشی ء بعینه و السلوك إلیه غیر الحصول فیه.

و الجواب [24]انّ الحركة بهذا المعنی و إن كان لها إبهام [25]بالقیاس إلی الحصولات الآنیة و الزمانیة [26]الّتی یعتبرها العقل إلاّأنها مع ذلك لها تعین من جهة تعین الموضوع و وحدة المسافة و وحدة الزمان و الفاعل المعین [27]و المبدء الخاص و المنتهی الخاص [28]، و هی أیضاً كما مرّ من الموجودات الضعیفة الوجود، فیكفیها من التعین هذا.

القدر و إن كان فیها ضرب من الاشتراك [29]؛ فإنّ نسبة تلك الحصولات إلی معنی التوسط المستمر نسبة الجزئیات إلی الكلی و نسبتها إلی معنی القطع المتصل نسبة الأجزاء و الحدود إلی الكل [30].

السادس إنّ لقائل أن یقول [31]: الحركة إمّا مركبة من امور كل واحد منها غیر منقسم أصلا أو لیس كذلك، و الأول باطل كما بیّن فی مباحث الجسم و المقادیر، و الثانی أی كونها قابلة للقسمة أبداً فالأجزاء الفرضیة منها لایوجد بأسرها دفعة لأنها غیر قارّة، فلا محالة یوجد منها شی ء بعد شی ء؛ فالجزء الموجود منها إن لم یكن منقسماً فكذلك الّذی یحصل بعد انقضائه مقارناً له أیضاً أمر غیرمنقسم، فالحركة إذن مركّبة من امور غیرمنقسمة هذا خلف؛ و إن كان منقسماً كان بعضه قبل و بعضه بعد فلایكون كلّه حاصلا فلایكون ما فرضناه حاصلاً حاصلاً هذا خلف.

أقول: هذه الشبهة من الإمام الرازی و هی قریبة المأخذ مما سبق ذكره سؤالا و جواباً، و الغلط إنما نشأ من الذهول عن أنّ وجود الشی ء مطلقاً أعم من وجوده فی الآن، ففی هذه الشقوق نختار الشق الأخیر [32]و هو أنّ الموجود من كلّ جزء من الحركة.

أمر منقسم بالقوة إلی أجزاء بعضها سابق و بعضها لاحق و هكذا بالغاً ما بلغ إلی حیث یقف العقل عن اعتبار التجزیة و القسمة [33].

السابع إنّ الاتصال بین الماضی من الحركة و المستقبل منه [34]اتصال بین موجود و معدوم.

و الجواب [35]إنّ الحركة و الزمان من الاُمور الضعیفة الوجود الّتی وجودها یشابك عدمها [36]و فعلیتها تقارن قوتها، و حدوثها عین زوالها، فكل جزء منها یستدعی عدم جزء آخر بل هو عدمه بعینه؛ فإنّ الحركة هی نفس زوال شی ء بعد شی ء و حدوث شی ء قبل شی ء [37]، و هذا النحو أیضاً ضرب من مطلق الوجود [38]كما أنّ للاضافات ضرباً.

من الوجود، و فی وجود الحركة شكوك و شبه كثیرة و لها أجوبة لانطول الكلام بذكرها و نصرف عنان القلم إلی ما هو أهمّ من ذلك.

---