اعلم أنّ السواد مثلا كما أومأنا إلیه من أول اشتداده إلی النهایة له هویة واحدة اتصالیة [1]، و له فی كل آن مفروض معنی نوعی آخر غیر ما له قبل و ما له.

بعد [2]، إذ مراتب الاشتداد كمراتب السوادات و الحرارات أنواع متخالفة عند المشائین [3]. فعلی اعتراف القوم یلزم و یثبت هیهنا أحكام ثلاثة [4]: .

الأول: لمّا كان عند الاشتداد حصول أنواع بلانهایة موجودة بوجود واحد اتصالی، إذ المتصل الواحد له وجود واحد عندهم [5]، فقد ثبت و تحقق أنّ الوجود أمر متحقق فی الخارج غیر الماهیة، بمعنی أنّ الأصل فی المتحققیة هو الوجود، و الماهیة معنی كلی معقول من كل وجود منتزعة عنه، محمولة علیه، متحدة معه ضرباً من الاتحاد و لو كانت الماهیة موجودة و الوجود أمراً معقولا انتزاعیاً كما ذهب إلیه المتأخرون لزم فی صورة الاشتداد وجود أنواع بلا نهایة بالفعل متمایزة بعضها عن بعض محصورة بین حاصرین، و یلزم منه مفاسد تشافع الأجزاء الّتی لاتتجزی كما یظهر بالتأمل.

و الثانی: إنّ السواد لمّا ثبت أنّ له فی حالة اشتداده أو تضعّفه هویة واحدة شخصیة [6]ظهر أنها مع وحدتها و شخصیتها تندرج تحت أنواع كثیرة و تتبدل علیه معانی ذاتیة و فصول منطقیة حسب تبدل الوجود فی كمالیته أو نقصه، و هذا ضرب من الانقلاب و هو جائز، لأنّ الوجود هو الأصل و الماهیة تبع له كاتباع الظل للضوء [7] فلیجز مثله فی الجوهر [8].

و الثالث: إنّ هذا الوجود الاشتدادی مع وحدته و استمراره فهو وجود متجدد.

منقسم [9]فی الوهم إلی سابق و لاحق [10]، و له أفراد بعضها زائل و بعضها حادث و بعضها آتٍ، و لكل من أبعاضه المتصلة حدوث فی وقت معین و عدم فی غیره، و لیس اشتماله علی أبعاضه كاشتمال المقادیر علی غیر المنقسمات عند القائلین بها لاستحالته، بل ذلك الوجود المستمر هو بعینه الوجود المتصل الغیرالقار، و هو بعینه أیضاً كل من تلك الأبعاض و الأفراد الآنیة [11]، فله وحدة ساریة فی الأعداد [12]لأنها جامعة لها بالقوة القریبة من الفعل. فإن قلنا إنه واحد صدقنا، و إن قلنا إنه متعدد صدقنا، و إن قلنا إنه باق من أول الاستحالة إلی غایتها صدقنا، و إن قلنا إنه حادث فی كل حین صدقنا؛ فما أعجب حال مثل هذا الوجود و تجدده فی كل آن، و الناس فی ذهول عن هذا مع أنّ حالهم بحسب الهویة مثل هذه الحال [13]و هم متجددون فی كل حین لأنّ إدراكه یحتاج إلی لطفِ قریحة و نور بصیرة [14]یری كون ما هو الباقی و ما هو.

الزائل المتجدد واحداً بعینه. ولْنصرف العنان إلی إثبات الحركة فی الجوهر [15]تتمیماً لما سبق ذكره فیه.

فنقول: لمّا علمت أنّ الوجود الواحد قد یكون له شؤون و أطوار ذاتیة و له كمالیة و تنقص، و القائلون بالاشتداد الكیفی و الإزدیاد الكمی و مقابلیهما قائلون بأنّ الحركة الواحدة أمر شخصی فی مسافة شخصیة لموضوع شخصی، و استدلوا علیه بأنّ الكون فی الوسط الواقع من فاعل شخصی و قابل شخصی بین مبدء و منتهی معیّنین لیس كوناً مبهماً نوعیاً بل حالة شخصیة یتعین بفاعلها و قابلها و سایر ما یكتنفها، و كذا المرسوم منه [16]یكون واحداً متصلا لاجزء له بوصف الجزئیة و إنما له أجزاء و حدود بالقوة، فنقول: إذا جاز فی الكم و الكیف و أنواعهما كون أنواع بلانهایة بین طرفیها بالقوة مع كون الوجود المتجدد أمراً شخصیاً من باب الكم أو الكیف، فلیجزْ مثل ذلك فی الجوهر الصوری، فیمكن اشتداده و استكماله فی ذاته بحیث یكون وجود واحد شخصی مستمر متفاوت الحصول فی شخصیته و وحدته الجوهریة بحیث ینتزع منه معنی نوع آخر بالقوة فی كل آن یفرض [17].

و أمّا الذی ذكره الشیخ و غیره فی نفی الاشتداد الجوهری من قولهم: «لو وقعت حركة فی الجوهر و اشتداد و تضعّف و ازدیاد و تنقص، فإما أن یبقی نوعه فی وسط الاشتداد مثلا أو لایبقی؛ فإن كان یبقی نوعه فماتغیرت الصورة الجوهریة فی ذاتها بل إنما تغیرت فی عارض، فیكون استحالة لا تكوّنا، و إن كان الجوهر لایبقی مع الاشتداد مثلا فكان الاشتداد قد أحدث جوهراً آخر، و كذا فی كل آن یفرض للاشتداد یحدث جوهراً [18]آخر فیكون بین جوهر و جوهر آخر إمكان أنواع جواهر غیرمتناهیة بالفعل، و هذا محال فی الجوهر، و إنما جاز فی السواد و الحرارة حیث كان أمر موجود بالفعل أعنی الجسم، و أما فی الجوهر الجسمانی فلایصح هذا إذ.

لایكون هناك أمر بالفعل حتی فرض فی الجوهر حركة» انتهی.

فاقول: فیه تحكّم و مغالطة نشأت من الخلط بین الماهیة و الوجود، و الاشتباه فی أخذ ما بالقوة مكان ما بالفعل. فانّ قولهم [19]: «إمّا أن یبقی نوعه فی وسط الاشتداد» ، إن ارید ببقائه وجوده بالشخص فنختار أنه باق علی الوجه الّذی مرّ، لأنّ الوجود المتصل التدریجی الواحد أمر واحد زمانی، و الاشتداد كمالیة فی ذلك الوجود، و التضعف بخلافها، و إن ارید به أنّ المعنی النوعی الّذی قد كان منتزعاً من وجوده أوّلا قد بقی وجوده الخاص به عند ما كان بالفعل بالصفة المذكورة الّتی له فی ذاته فنختار أنه غیرباق بتلك الصفة، و لایلزم منه حدوث جوهر آخر أی وجوده بل حدوث صفة اخری ذاتیة له [20]بالقوة القریبة من الفعل، و ذلك لأجل كمالیّته أو تنقّصه الوجودیین؛ فلا محالة یتبدل علیه صفات ذاتیة جوهریة، و لم یلزم منه وجود أنواع بلا نهایة بالفعل بل هناك وجود واحد شخصی متصل له حدود غیرمتناهیة بالقوة بحسب آنات مفروضة فی زمانه، ففیه وجود أنواع بلانهایة بالقوة و المعنی لا بالفعل و الوجود [21].

و لافرق بین حصول الاشتداد الكیفی المسمّی بالاستحالة و الكمّی المسمی بالنمو و بین حصول الاشتداد الجوهری المسمّی بالتكوّن [22]فی كون كل منهما استكمالا تدریجیاً و حركة كمالیة فی نحو وجود الشی ء، سواء كان ما فیه الحركة كماً أو كیفاً أو جوهراً. و دعوی الفرق بأنّ الأوّلیْن ممكنان و الآخر مستحیل تحكّم محض بلا حجة؛ فانّ الأصل فی كل شی ء هو وجوده و الماهیة تبع له كما مرّ مراراً.

و موضوع كلّ حركة و إن وجب أن یكون باقیاً بوجوده و تشخصه إلاّأنه یكفی [23].

فی تشخص الموضوع الجسمانی أن یكون هناك مادة تتشخص بوجود صورة مّا و كیفیة مّا و كمیة مّا فیجوز له التبدّل فی خصوصیات كلّ منها [24]، أوَلاتری أنّ تبدّل الصورة علی مادة واحدة یكون وحدتها مستفادة من واحد بالعموم و هی صورة مّا، و واحد بالعدد و هو جوهر مفارق عقلی مما جوّزه الشیخ و غیره من الحكماء [25]؟ و صرّحوا بأنّ العقل غیرمنقبض عن استناد وجود المادة المستبقاة فی كل آن [26]إلی صورة اخری بدل الاُولی مع انحفاظ تشخّصها المستمر بصورة مّا لا بعینها و استناد كل صورة شخصیة بعینها إلی تلك المادة. فإذا جاز ذلك فی أصل الجسمیة و هی نوع- .

أی الجسم بالمعنی الّذی [27]هو مادة غیرمحمولة و إن لم یكن كذلك بالمعنی الّذی یحمل علی الأجسام المتخالفة، إذ الجسمیة بهذا الاعتبار جنس- فلیجز مثل ذلك فی النوعیات الصوریة التی مادتها القریبة نفس الجسمیة الطبیعیة.

و بذلك ینحلّ إشكال الحركة فی مقولة الكم الّذی اضطرب المتأخرون فی حلّه حتی أنكرها صاحب الإشراق و متابعوه حیث قالوا إضافة مقدار إلی مقدار آخر یوجب انعدامه و كذا انفصال جزء مقداری عن المتصل یوجب انعدامه [28]، فالموضوع لهذه الحركة غیر باق.

و الشیخ الرئیس أیضاً استصعب ذلك واعترف بالعجز عن إثبات موضوع ثابت فی النبات بل فی الحیوان لهذه الحركة حیث قال فی بعض رسائله المكتوبة إلی بعض تلامیذه، و قد سئله عن هذه المسألة، بهذه العبارة: «أمّا الشی ء الثابت فی الحیوانات فلعله أقرب إلی البیان [29]، و لی فی الأصول المشرقیة خوض عظیم فی التشكیك ثم فی الكشف، و أما فی النبات فالبیان أصعب، و إذا لم یكن ثابت كان تمیزه لیس بالنوع فیكون بالعدد، ثم كیف یكون بالعدد إذا كان استمراره فی مقابل الثبات غیرمتناهی القسمة بالقوة [30]و لیس قطعٌ أولی من قطع [31]، فكیف یكون عدد غیرمتناه متجدداً فی زمان محصور. لعل العنصر هو الثابت ثم كیف یكون ثابتاً و لیس الكم یتجدد علی.

عنصر بل یرد عنصر علی عنصر [32]بالتغذیة. فلعل الصورة الواحدة یكون لها أن یكتسیها مادة و أكثر منها، و كیف یصحّ هذا و الصورة الواحدة معینة لمادة واحدة. و لعل [33]الصورة الواحدة محفوظة فی مادة واحدة اُولی یثبت إلی آخر مدة بقاء الشخص، و كیف یكون هذا و أجزاء النامی تتزاید علی السواء فیصیر كل واحد من المتشابهة الأجزاء أكثر مما كان، و القوة [34]ساریة فی الجمیع لیس قوة البعض أولی من أن یكون الصّورة الأصلیة دون قوة البعض الآخر. فلعل قوة السابق وجوداً هو الأصل المحفوظ لكن نسبتها إلی السابق كنسبة الاخری إلی اللاحق. فلعل [35]النبات الواحد بالظن لیس واحداً بالعدد فی الحقیقة بل كل جزء ورد دفعة هو آخر بالشّخص متصل [36]بالأول؛ أو لعل [37]الأول هو الأصل یفیض منه التالی شبیهاً به، فإذا بطل الأصل بطل ذلك من غیر انعكاس. و لعلّ هذا یصح فی الحیوان أو أكثر الحیوان و لا یصح فی النبات [38]، لأنها لا تنقسم إلی أجزاء، كل واحد منها قد یستقل فی.

نفسه [39]؛ أو لعلّ [40]للحیوان و النبات أصلا غیر مخالط [41]، لكن هذا مخالف للرأی الّذی یظهر منا؛ أو لعلّ المتشابه بحسب الحس غیرمتشابه فی الحقیقة، و الجوهر الأول ینقسم فی الحوادث من بعد انقساماً لایعدمه مع ذلك اتصالا و فیه المبدء الأصلی؛ أو لعل النبات لا واحد فیها بالشخص مطلقاً إلاّزمان الوقوف الّذی لابدّ منه. فهذه أشراك و حبائل إذا حام حوالیها العقل و فرّع علیها و نظر فی أعطافها رجوت أن یجد من اللّه مَخلصاً إلی جانب الحقّ. و أما ما علیه الجمهور من أهل النظر فلیجتهد [42]كما عنینا فی أن یتعاون علی درك الحق فی هذا و لا ییأس من روح اللّه» ، انتهی كلامه.

فعلم من ذلك أنه متحیر فی هذه المسألة، ثم كتب إلیه ذلك التلمیذ أو غیره: «إن أنعم الشیخ أدام اللّه علوه باتمام الكلام فی اثبات شی ء ثابت فی سائر الحیوانات سوی الإنسان و فی النبات كانت المنة أعظم» . فكتب فی جوابه: «إن قدرت» . انتهی. فعلم أن ذلك أمر تحقیقه غیرمقدور علیه للشیخ قدس سرّه.

و وجه الانحلال أنّ موضوع هذه الحركة هو الجسم المتشخص لاالمقدار المتشخص، و تشخص الجسم یلزمه مقدارمّا فی جملة ما یقع من حدّ إلی حدّ كما قالته الأطباء فی عرْض المزاج الشخصی [43]، و الحركة واقعة فی خصوصیات المقادیر.

و مراتبها، فما هو الباقی من أول الحركة إلی آخرها غیر ما هو المتبدل، و الفصل و الوصل لا یُعدمان إلاّالمقدار المتصل المأخوذ بلامادة طبیعیة بحسب الوهم أو الجسمیة المجردة عن الزوائد الصوریة، لأنّ وجودها الشخصی بما هی جسمیة فقط یقتضی مقداراً معیناً، و أما الجسم الطبیعی النوعی المتقوم من الجسمیة و صورة اخری ینحفظ نوعه بالصورة المعینة المنوعة التی هی مبدء الفصل الأخیر له مع جسمیة مّا التی بإزاء جنسه القریب [44]، و الجنس یعتبر مبهماً و الفصل محصّلا، فتبدل آحاد الجنس و المادة لا یقدح فی بقاء الموضوع مادامت الصورة باقیة. و قولهم انضمام شی ء مقداری إلی شی ء مقداری یوجب ابطاله إنما یصح فیما لكل واحد وجود بالفعل فاضیف أحدهما إلی الآخر [45]، و غیرصحیح إذا كانا بالقوة إضافة تدریجیة [46].

---