فی نسبة الحركة الی المقولات.

إذا قلنا حركة فی مقولة كذا [1]احتمل وجوهاً أربعة. أحدها: إنّ المقولة موضوع حقیقی لها. و الثانی: إنّ الموضوع و إن كان هو الجوهر و لكن بتوسط تلك المقولة [2]. الثالث:

إنّ المقولة جنس لها. الرابع: إنّ الجوهر یتبدل و یتغیر من نوع تلك المقولة إلی نوع أو من صنف إلی صنف آخر تبدلاً و تغیراً علی التدریج، و الحق هو هذا القسم الأخیر دون البواقی.

أما الأول فنقول: التسود لیس هو أنّ ذات السواد یشتد فإنّ ذات السواد إن بقیت بعینها و لم یحدث فیها صفة فلم یشتد بل هی كما كانت، و إن حدثت فیه صفة زائدة و ذاته باقیة كما كانت فلایكون التبدل فی ذات السواد بل فی صفاته- و صفاته غیر ذاته.

- و قد فرضنا التبدل فی ذاته هذا خلف [3]. و إن لم یبق ذاته عند الاشتداد فهو لم یشتد بل عدم و حدث سواد آخر و هذا لیس بحركة. فعلم أنّ موضوع هذه الحركة محل السواد لانفسه، و الاشتداد یخرجه من نوع إلی نوع أو من صنف إلی صنف، فله فی كل نوع آخر أو صنف آخر.

و كذا الحركة فی المقدار [4]فإنّ الشی ء إذا تزاید مقداره فإمّا أن یكون هناك مقدار واحد باق فی جمیع زمان الحركة أو لایكون. فإن كان فالزیادة إما أن تداخَلُه [5]أو تنضم إلیه من خارج. الأول باطل لاستحالة التداخل و لأنّه علی فرض ذلك لم یزد المقدار علی ما كان و كلامنا فیه، و الثانی أیضاً باطل لأنّ ذلك كاتصال خط بخط مازاد شی ء منهما و لا المجموع علی ما كان أولاً و إن كان المقدار الأول لایبقی عند الزیادة فلا یكون هو موضوع بل محله أعنی الهیولی فقط أو مع مقدارمّا علی العموم [6] كما هو التحقیق عندنا، فهناك مقادیر متعاظمة متتالیة علی الجسم بلا نهایة بالقوّة.

واعلم أنّ الإمام الرازی لمّا نظر فی قولهم «إنّ التسود یخرج سواداً من نوعه» زعم أنّ معناه أنّه یخرجه إلی غیرالسواد [7]، و لأجل ذلك قال فی بعض تصانیفه: «إنّ اشتداد السواد یخرجه من نوعه و یكون للموضوع فی كلّ آن كیفیّة بسیطة واحدة، لكن الناس یسمون جمیع الحدود المقاربة من السواد سواداً و جمیعَ الحدود المقاربة.

من البیاض بیاضاً، و السواد المطلق فی الحقیقة واحد و هو طرف خفی، و البیاض كذلك و المتوسط كالممتزج لكن یعرض لما یقرب من أحد الطرفین أن ینسب إلیه، و الحس لایمیز فیظن أنها نوع واحد» ، انتهی ما ذكره. و قد صوّبه بقوله «هذا كله حقّ و صواب، لكن یجب طرد القول به فی الحركة المقداریة» .

أقول: فساده ممّا لایخفی علی من له اطلاع علی هذه المباحث، و لست أدری أیّ حدّ من حدود السواد سواد عنده و البواقی كلّها غیرسواد، مع أنّ كل واحد من تلك الحدود یوجد بالفعل عند الثبات و السكون و إذا لم یكن سواد فأیّ شی ء كان؟ .

ثمّ اعترض علی قولهم: «إنّ للمتحرك فی المقدار فی كل آن مقداراً آخر بحیث لایوجد مقدار واحد منهما فی زمانین و إلاّلم تكن الحركة فیه» بأنّه یلزم علیهم القول بتتالی الآنات. قال: «و الّذی وجدنا فی التعلیقات جواباً عن ذلك من أنّ تلك الأنواع بالقوّة، فیه نظر لأنّ الأنواع إن لم یكن لها وجود فی الخارج لم یكن لحركة الجسم فی كیفیة واحدة وجود فی الخارج؛ فالجسم لایكون متحركاً بل یكون ممكناً أن یتحرك و إن كانت موجودة بالفعل، و قد دل الدلیل علی تخالفها بالنوع و أنّ كلا منها لا یوجد فی غیر آن و هی متتالیة لا یتخلّلها زمان یلزم ما ذكرناه [8]، و الّتی هذا شأنها كیف یقال إنّ وجودها بالقوّة. بل هذا الشك یستدعی حلا أصفی و أشفی من هذا الكلام و سیكون لنا إلیه عود عنقریب» انتهی.

أقول: إنّ الموجود من السواد مثلاً فی أثناء الحركة أمر وحدانی متوسط بین الحدود و ذلك مستمر [9]، و له فرد زمانی متصل تدریجی منطبق علی زمان الحركة، و لها أفراد آنیة وجودها بالقوة القریبة من الفعل و الوجود [10]و قد علمت أنّه متقدم علی.

الماهیة فهیهنا لمطلق السواد [11]وجود بالفعل لكن هذا الوجود بحیث یصح أن ینتزع العقل منه فی كل آن نوعاً آخر من السوادات الموجودة بوجودات متمایزة آنیّة، و لا فساد فی ذلك بل هذا الوجود للسواد أقوی من الوجودات الآنیة حیث یكون مصداقاً لأنواع كثیرة، و هذا كما أنّ وجود الحیوان أقوی من وجود النبات لأنّه مع وحدته یكون مصداقاً لجمیع المعانی الموجودة فی النبات و الموجودة فیه الّتی كلٌ منها یوجد علی حدة فی موضوع آخر، و هكذا حكم الشدید من السواد حیث یوجد فیه كلّ ما یوجد فی السوادات الضعیفة من المعانی بالقوّة، و كذا المقدار العظیم هذا حكمه، و معنی بالقوة و بالفعل هیهنا یرجع إلی الجمع و التفصیل.

ثمّ إنّ الحل الذی اعتمد علیه فی هذا المقام انّ للسواد فی اشتداده تبدلات دفعیة للموضوع كلٌّ منها یبقی زماناً قلیلاً لایدرك بالحس بقاؤه لصغر زمانه فیظنّ أنّ له فی كل آن فرداً آخر، و هكذا فی الكم، و بالجملة لابدّ عنده من القول بنفی الحركة بالحقیقة فی هاتین المقولتین [12].

أقول: و هذا ممّا لافائدة فیه لدفع الإشكال المذكور، لأنّ مثله یرد علی وقوع الحركة فی الأین و فی الوضع أیضاً إلاّأن یرتكب فیه وجود الطفرة الّتی یكذّبها الحس أیضاً فالمصیر إلی ما ذكرناه فقد ظهر بطلان القسم الأوّل.

و أمّا بطلان القسم الثانی فهو أیضاً یعلم مما ذكر لأنّه إذا لم یجز كون شی ء موضوعاً لعارض لم یجز كونه واسطة فی العروض إلاّأن یعنی بكونه واسطة معنی آخر، و هو كون الطبیعة المطلقة باعتبار وحدة مّا، أیّ وحدة كانت، واسطة بینها و بین الموضوع كما ذكر فی الحركة المقداریه.

و أما القسم الثالث و هو كون المقولة جنساً لهذا [13]فقد ذهب إلیه بعض فزعموا بأنّ الأین منه قار و منه غیرقار و هو الحركة المكانیة، و الكیف منه قارٌ و منه سیال و هو الاستحالة، والكم منه قارٌ و منه سیال و هو النموّ و الذبول [14]فالسیال من كلّ جنس هو الحركة، و هذا غیرصحیح [15]بل الحق أن الحركة تجدد الأمر لا الأمر المتجدد كما أنّ السكون قرار الشی ء لا الشی ء القار؛ لكن هیهنا شی ء [16]و هو أنّ ثبوت الحركة للفرد المتجدد السیال [17]لیس كعروض العرض للموضوع المتقوم بنفسه لا بمایحلّه بل هی من العوارض التحلیلیة- و العوارض التحلیلیة نسبتها إلی المعروض نسبة الفصل إلی الجنس [18]- و كذا الكلام فی نسبة السكون إلی الفرد القار. فإذا تقرر هذا فالقول بأنّ.

الكیف منه فرد قار و منه فرد سیال حق و صواب [19]، و أنّ [20]الكیف السیال حركة بمعنی أنّ ما به الحركة عین وجوده لا أمر زائد علیه أیضاً غیربعید [21].

ثمّ إنّ هؤلاء اختلفوا فمنهم من جعل المخالفة بالسیلان و الثبات مخالفة نوعیة محتجین بأنّ السیالیّة داخلة فی ماهیة السیال فیكون فی ماهیته مخالفاً لما لیس بسیال.

و منهم من جعلها مخالفة بالعوارض لأنّه كزیادة خط علی خط، و الحجتان كلتاهما باطلتان.

أمّا الأولی فیرد علیه أنّ البیاض داخل فی حقیقة الأبیض مع أنّ امتیاز الأبیض عن الأسود قد لایكون بالفصل المنوع، و هذا غیروارد علی ما احتججنا به. و أمّا الثانیة فیرد علیها أنه لیس كل زیادة غیرمنوّع كزیادة الفصول و كزیادة الآحاد فی العدد فإنها زوائد منوّعة، لكن یجب أن یعلم كیفیة زیادة الفصول و امتیازها عن زیادة الخواص الممیّزة غیرالمنوّعة، و إذا بطلت الأقسام الثلاثة فتحقق الرابع و هو أنّ المعنی بوقوع الحركة فی مقولة أن یكون الموضوع [22]متغیراً من نوع إلی نوع أو من صنف إلی صنف [23]تدریجیاً لا دفعیاً.

---